هلن طوماس أبرزت شوائب الديمقراطية الأمريكية والاعلام في أمريكا
بقلم راي حنانيه
Helen Thomas exposed flaws of American Journalism
في نفس الوقت الذي تُدين فيه الولايات المتحدة عددا من الدول الأخرى على أساس نقص مزعوم في الحريات والديمقراطية، تجلس هي نفسها في وسط بيت من الزجاج.
فقد كان هناك على مدى السنوات العديد من المناسبات والأحداث التي أزاحت الغطاء على تلك الشوائب القاتلة التي من شأنها أن تُظهر النفاق الأمريكي.
رحلت هلن طوماس الأسبوع الماضي، عن سنّ تناهز الـ92 عاما.
لقد كانت من أوائل الأمريكيين العرب الذين دخلوا مجال الاعلام الاخباري السائد في أمريكا بشكل كامل. هناك الكثير من الكتّاب الأمريكيين العرب، ولكن أغلبهم نشطاء يناصرون من أجل قضايا بعينها. ولكن هلن طوماس كانت أيقونة الأخلاقيات والمهنيّة. ورغم اتهامها “بالمناصرة”، فإنها كانت تكتفي بطرح أسئلة لم تكن تروق لأيّ من الرؤساء الذين شملتهم تغطيتها.
كما أن هلن طوماس كانت بمثابة مؤسسة إعلامية في ذاتها، حيث أنها كانت أول امرأة تغطي البيت الأبيض، وكان ذلك في بداية ولاية الرئيس جون كندي، الذي وقع اغتياله منذ 50 عاما، إثر مؤامرة وقع طمس معالمها من قِبل الحكومة.
وغطّت هلن طوماس كل الرؤساء منذ جون كندي وحتى الرئيس أوباما، قبل أن تُطرد من وظيفتها في أواخر العام 2010 من جريدة هيرست، جرّاء كمين نصبه لها حاخام موالي لإسرائيل له سجلّ مشبوه، عندما كانت خارجة من حفل استقبال بالبيت الأبيض.
وكان ذلك الحاخام الذي نشر قبلها صورا عنصرية تستهزأ بالأمريكيين المكسيكيين في سياق “هزلي”، وجّه لها سؤالا حول رأيها “بإسرائيل”، بينما كان يصوّرها بالفيديو.
وردّت عليه هلن طوماس بأسلوبها القويّ المعهود ” قُل لهم أن يخرجوا من فلسطين حالاًّ”.
ثم طرح الحاخام عليها أسئلة أخرى، ولكن هلن طوماس لم تذكر طوال المحادثة كلمة يهود ولم تنتقد اليهود.
ولكن ذلك لم يكن يهمّ. وبعد بضعة أشهر، التقطت بعض المواقع المعادية للعرب وللمسلمين الفيديو الذي نشره الحاخام، ثم انقضّ عليه الاعلام السائد وغيّر الموضوع من انتقاد لإسرائيل، وهي حكومة أجنبية، وحوّله إلى هجوم معادٍ للسامية يستهدف “اليهود”.
ولم يهتمّ أيّ من الصحفيين الذين تابعوا الجدل أن هلن طوماس عبّرت عن رأي يهمّ اسرائيل في سياق انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية الفلسطينية المحتلّة، وهو شرط من شروط السلام القائم على أساس الدولتين.
وكان الحاخام قد أردف سؤاله بسؤال آخر قائلا: “وأين عليهم أن يذهبوا؟” وكان جوابها “إلى بيوتهم”. فأضاف مُمعنا : “وأين هي بيوتهم؟” فردّت طوماس :” بولاندا، ألمانيا، أمريكا وكل الأماكن الأخرى”.
وارتمى كل الذين يكرهون العرب والذين يعجّ بهم الاعلام السائد، وحوّلوا تعليقا ارتجاليا بسيطا إلى قضية معاداة للسامية وإنكارا للمحرقة وكراهية. قلّة هم من شاهدوا الفيديو أو استمعوا إلى المحادثة ولكن الأغلبية ابتلعت التأويل المُغرض وسيء النيّة الذي قدّمه لهم الاعلام، بمعونة جيش من النشطاء اليمينيين المتطرفين الداعمين لإسرائيل.
ولو كانت هلن طوماس هي الأمريكية العربية الوحيدة التي تتعرض إلى استهداف سافر من أجل التعبير عن الرأي، ربما اعتبرنا ذلك أمرا استثنائيا. ولكنها لم تكن الوحيدة. فخلال العامين السابقين لعملية التمريغ في الوحل والتشهير التي تعرضت لها طوماس على يد طغمة الاعلاميين المعادين للعرب والذين تسيّرهم إسرائيل، تعرض عدد كبير من الأمريكيين العرب للطرد من وظائفهم بعد أن عبّروا على آراء، لم تكن تتماشى مع مصالح إسرائيل.
فقد تعرّضت أكتافيا نصر المذيعة التلفزيونية المتألّقة في قسم الشرق الأوسط لسي أن أن، إلى الطرد التعسّفي في شهر فبراير 2010، بعد أن ترحّمت على روح عالم الدين المسلم المعتدل، والذي تبيّن لاحقا أنه ينتمي إلى حزب الله، المليشيا اللبنانية الاسلامية المتطرفة.
كما تعرض مدير تحرير محطة إذاعة في بلتيمور يُدعى خالد سوني، إلى الطرد في 2012، بعد أن وصف الاحتلال الاسرائيلي بأنه “وحشيّ”، وهو توصيف تستخدمه مجموعات الدفاع عن حقوق الانسان بشكل معتاد لانتقاد الاحتلال.
ولا يتوقف الاستهداف على العرب فحسب، رغم أن الانتماء للعروبة أو للإسلام يجعلان منك ضحية يسيرة في يد الاعلام السائد المساند لإسرائيل. ذلك الاعلام مُجنّد دائما لنزع أي صحفي قد يكون له نظرة منتقدة لإسرائيل.
لهذا السبب تجد أن معظم الأمريكيين العرب الذين يعملون في الاعلام السائد لا يتحدثون علنا عن النزاع العربي الاسرائيلي. وعلى عكس ذلك، تجد أن معظم الاعلاميين الأمريكيين اليهود والاسرائيليين الذين يعملون في الاعلام السائد دائما ما يعبّرون عن آراءهم المنتقدة للعرب وللمسلمين والفلسطينيين، ويدافعون عن إسرائيل.
فالمسألة إذا لا علاقة لها بحرية التعبير، بل أن المسألة هي “ما يصلح بإسرائيل”.
إذا انتقدتَ إسرائيل في أمريكا، فإن الاعلام السائد سيتجاهلك، إلاّ إذا ما أراد أن يستخدم رأيك لإظهارك بصورة سلبية. والاعلام هنا ممنوع من التعرّض للقضايا الجوهرية في النزاع العربي الاسرائيلي.
وكان الاسرائيليون يكرهون هلن طوماس لأنها كانت تطرح على كل رئيس أمريكي نفس السؤال الذي يفضح النفاق الأمريكي. “هل تعرف أيّ دولة في الشرق الأوسط تمتلك السلاح النووي عدى إسرائيل؟”
فيتلعثم الرؤساء ويضطربون بحرج. تخيّلوا.. حتى رئيس أمريكا يخشى أن يصطدم مع الاعلام الموالي لإسرائيل. ولكنهم جميعهم يعرفون الجواب على ذلك السؤال. إسرائيل تمتلك ما يزيد على 250 رأسا نووية. ولكن لا يمكن لأمريكا أن تعترف بذلك لأن ذلك سيفضح سياساتها الخارجية المنافقة.
لقد دخلتُ إلى عالم الصحافة سنة 1967، بعد سنتين من الخدمة العسكرية الفعلية في حرب الفييتنام. كنت حينذاك أعتقد أن الاعلام سلطة، وأن العرب لم يُفلحوا في تقديم وجهة نظرهم للجمهور الأمريكي.
ولم يتّضح الأمر لي إلاّ بعد أن طُردتُ من صحيفتي، لأنني تخاصمتُ مع المحررين حول خمسة مقالات كنت قد كتبتها حول الانتفاضة الفلسطينية سنة 1990. وأثارت تلك المقالات حفيظة النشطاء المساندين لإسرائيل وبعض الزملاء في الصحيفة التي كنت أعمل فيها. وبعد ستة أشهر، تربّص بي مدير التحرير ولفّق لي قضية وطردني من الصحيفة.
إن المشكلة الأكبر هي مدى ضعف الأمريكيين العرب والمسلمين. فما كان بإمكان النشطاء المساندين لإسرائيل أن ينجحوا في مثل هذا الاستهداف لولا ضعف ردة الفعل العربية. وهي حقيقة ضعيفة.
والحقيقة هي أن الظلم الذي تعرّضت له هلن طوماس لم يكن ظلما مُوجّها ضدّ صحفية كبيرة بسجلّ باهر استمرّ 50 عاما فحسب، بل هو هجمة ضدّ كل أمريكي عربي، وكل أمريكي مسلم، وكل الشعوب العربية.
راي حنانيه كاتب صحفي متحصل على جوائز عديدة. اتصلوا به على موقع www.TheMediaOasis.com . تابعوه على عنوان تويتر @rayhanania
Categories: Arabic
Leave a Reply